![الاخبار _ اسعد ابو خليل ملاحظات نقدية على اتفاق وقف النار السقطة [7] الاخبار _ اسعد ابو خليل ملاحظات نقدية على اتفاق وقف النار السقطة [7]](uploads/gallery/Albums/2024/14-12-2024/011486296b.jpeg)
لا يزال الحديثُ هنا عن اتّفاق وقْف النار الأخير بين «جمهوريّة لبنان ودولة إسرائيل» (بحسب المصطلح الوارد في الاتّفاقية). وذكرتُ في الحلقة السابقة أنّ الاتّفاق في بنده السابع يعترفُ بأنّ منطقة جنوب اللّيطاني هي مرحلة أُولى فقط من اتّفاق سيسري فيما بعد على كلّ لبنان، ولقد أكّد ذلك المبعوث الإسرائيلي ــ الأميركي ووالد صهر ترامب اللبناني.
ثالث عشر، يلحظُ الاتّفاق أنّ عدد قوّة الجيش اللّبناني في الجنوب سيصل إلى 10 آلاف جندي، وأنّ «المجتمع الدولي» (أي اللّوبي الإسرائيلي) سيُحسّنُ قدرات الجيش (أي إنّنا سنحصل على مزيد من الشاحنات وطائرات رشّ المبيدات وصواريخ ذات مدى لا يتعدّى الميل أو الميلَيْن. وهناك احتمال أن تصلنا أيضاً طوّافة زجاجيّة إضافيّة - تلك التي يمكن لتلاميذ المدارس أن يسقطوها بإجاصة).
رابع عشر، يتحدّثُ البند التاسع، بصيغة مُبهمة تحتاج إلى تفاسير من فريق مفاوضات 17 أيّار، عن تطوير اللّجنة الثلاثيّة وإعادة تركيبها التي تجمع بين ضبّاط الجيش اللّبناني وضبّاط العدوّ في جلسات سَمَر وسَهر في الناقورة. وفي هذه السهرات، كان الوفد اللّبناني يقدّم شكاواه بانتظام عن الخروقات الإسرائيليّة المستمرّة لاتّفاقية الهدنة ولقرار 1701. ويتحدّث البند عن منْع «مجموعات مسلّحة محظورة». مَن الذي سيُصدر قرار الحظر هنا؟ الجواب إنّ الحظر سيأتي من إسرائيل نفسها. تخيّل لو أنّ لبنان عرّفَ المستوطنين في الضفّة بأنّهم مجموعة محظورة واجب تفكيكها. ويتحدّث البند حتى عن بنى تحتيّة ومواقع (تحت الأرض وفوق الأرض) غير قانونيّة. أي إنّ الملجأ المُحصّن يمكن أن يشكّل خرقاً بحسب المفهوم الأميركي ـــ الإسرائيلي.
خامس عشر، يحدّدُ القرار دورَ اليونيفيل فقط لحماية إسرائيل، وليس هناك أيّ متطلّبات من إسرائيل أو واجبات. أي إنّ القرار له جانب واحد فقط. القرار في نصّه يعترف للمرّة الأولى أنّ دور «اليونيفيل» لا يسري بتاتاً على الجانب الآخر من الحدود اللبنانيّة.
سادس عشر، يسمحُ القرار في البند العاشر للبلدَيْن بتقديم شكاوى منفصلة إلى مجلس الأمن. وهذا البند أضحوكة بحدّ ذاته؛ لأنّ طرفاً واحداً في الاتّفاق يتمتّع بحماية دولةٍ دائمة العضويّة، والتي تستعملُ حقّ الفيتو بمناسبة وغير مناسبة لحماية عدوان إسرائيل واحتلالها.
سابع عشر، البند الحادي عشر يطلب من الجيش اللّبناني الانتشار «إلى كلّ الحدود» وإلى كلّ المعابر البحرية والبرّية والجوّية. أي إنّ دور الجيش اللّبناني بات مُكرّساً ليس لحماية لبنان بل لحماية إسرائيل في كلّ أنحاء الجمهوريّة اللبنانيّة. أمّا في خطّ جنوب اللّيطاني، فالمطلوب من الجيش نشْر حواجز وعوائق لمنع أيّ مقاوم من الوصول إلى المنطقة العازلة التي تريدها إسرائيل (هنا، طبعاً، يثق المرء بخيال حركة المقاومة وطموحها، والتي اجترحت الأعاجيب في بناء القدرات حتى بعد التوصّل إلى قرار 1701 في عام 2006).
ثامن عشر، البند الثاني عشر يمنح حرّية حركة مذهلة للعدوّ الإسرائيلي، إذ إنّ البند يقول إنّ إسرائيل ستسحب «قواتها» (لا يقول كلّ قوّاتها وهذا الفارق مهم). في عام 1967 طلبت الوفود العربيّة في الأمم المتحدة أن ينصّ القرار 242 على انسحاب إسرائيل من «كلّ الأراضي العربيّة التي احتلّتها في الحرب الأخيرة»، لكنّ أميركا وإسرائيل أصرّتا على صيغة «من أراضٍ احتُلّت»، ما سمح لإسرائيل بتحديد ما تودُّ الانسحاب منه، لأنّها لو انسحبت من 1% من الأراضي فإنّ القرار يكون قد نُفِّذَ من قبل إسرائيل، وهي قالت ذلك عندما انسحبت من سيناء بعد فرْض اتفاقيّة استسلام على مصر. في عام 1967، سمحت الحكومة الأميركيّة بنصّ روسي وفرنسي للقرار وقال بـ«الانسحاب من كلّ الأراضي» لكنّ أميركا فرضت أن يكون النصّ الإنكليزي هو المُعتمَد والغالب، وهكذا كان. القرارُ هنا يقول إنّ قوات إسرائيل (بعضها أم كلّها؟ غير مذكور) ستنسحب «في مراحل» إلى جنوب الخطّ الأزرق. لكن ليس هناك من تحديد لهذه المراحل؟ لماذا لم تصرّ قيادة الجيش على فرض هذا التحديد الضروري؟ صحيح أنّ الجيش لا يقرّر السياسات، لكنّه بصفته الاستشاريّة يستطيع أن يقدِّم النصح للقيادة السياسيّة؛ لأنّه أعلم في المواضع العسكريّة والاستراتيجيّة (نظريّاً على الأقل). يقول البند (في صيغة غير واضحة أو محدّدة) إنّ تطبيق هذا الأمر المحدّد لا يجب أن يستغرق أكثر من 60 يوماً.
الزلزال المدمّر الذي لحق بالمقاومة (نتيجة عوامل كثيرة بعضها ذاتي وبعضها موضوعي) قلّصَ من قدرتها على فرض اتّفاق أقلّ اختلالاً
تاسع عشر، يقول القرار إنّ حكومتَي لبنان وإسرائيل «تطلبان من الولايات المتحدة أن تسهّل المفاوضات غير المباشرة بينهما بهدف حلّ نقاط الخلاف المتبقيّة على الخطّ الأزرق». 1) كيف يمكن للبنان أن يوافق إسرائيل أنّ أميركا هي المرجع الصالح لأداء دور الوسيط بين لبنان وإسرائيل؟ إنّ قبول وساطة هوكشتين على مرّ السنة الماضيّة أدّى إلى قتْل عدد من اللّبنانيّين. كان هوكشتين يغطّي على عدوان إسرائيل، وكانت مهمّته أحياناً لا تتعدّى التضليل المقصود من أجل أن يباغت العدوّ المقاومة. إنّ أوّل قصْف للضاحية أتى بعد ساعات فقط من تطمينات أعطاها هوكشتين للمسؤولين اللبنانيّين. 2) وإسرائيل دائماً تسعى في الاتّفاقات التي تعقدها مع أعدائها إلى اعتماد صيغة «الإبهام البنّاء» (بحسب تعبير هنري كيسنجر، في وصفه للصيغ المتعلّقة بإسرائيل) لأنّها من خلالها تفعل ما تشاء من دون أن تكون مسؤولة قانوناً عن خرْق روح الاتفاق، بنظرها. 3) لماذا هناك إشارة إلى «نقاط الاختلاف المتبقّية» من دون تحديدها ووصفها؟ هنا نتحدّث عن احتلال إسرائيل لأراضٍ لبنانيّة مثلاً. كيف لا يكون هناك إشارة إليها بالتحديد والخرائط المفصّلة؟ إسرائيل في الاتّفاق أعطت لنفسها الحقّ في التدخّل في الشؤون الداخليّة اللّبنانيّة (في مسائل هي من بديهيات السيادة الوطنيّة) بينما الجانب اللّبناني (والمسؤوليّة كبيرة على الجيش هنا لأنّه الطرف المعني أساساً) يقبل بالإشارة إلى احتلال أرضه بصيغة «نقاط الاختلاف المتبقيّة».
عشرون، ويختم الاتّفاق بالإشارة إلى عودة المدنيّين في الجانبَيْن من الحدود، كما أنّ فرنسا وأميركا تنويان قيادة «الجهود الدوليّة لدعم بناء القدرات والتنمية الاقتصاديّة في لبنان». حتى هذه النيّة الحسنة ظاهراً لا يمكن الركون إليها لأن لا فرنسا ولا أميركا فعلتا شيئاً للبنان بعد الانهيار الاقتصادي. على العكس، فإنّ أميركا منعَت أيّ دولة من مساعدة لبنان لأنّها تربط المساعدات بضرب المقاومة والتطبيع مع إسرائيل. ومن المتوقّع أن تربط أميركا أيّ مساعدة خارجيّة بالطلب من لبنان الالتزام بخطوات تطبيعيّة (من باب إثبات حسن النيّة) نحو العدوّ.
طبعاً، إنّ الاتّفاق أتى في سياق صعب، وصعب جداً. هذه كانت من أصعب الحروب العربيّة الإسرائيليّة ومن أطولها، خاضتها المقاومة في لبنان في ظروف شديدة الصعوبة، ويداها مقيّدتان خلف ظهرها. الزلزال المدمّر الذي لحق بالمقاومة (نتيجة عوامل كثيرة بعضها ذاتي وبعضها موضوعي) قلّصَ من قدرتها على فرض اتّفاق أقلّ اختلالاً. ولو كان التفاوض بِيد الفريق المعادي للمقاومة، أو بِيد أيّ حكومة عربيّة، لأتى الاتّفاق نسقاً غير معدَّل لـ17 أيّار. إنّ عجْز العدوّ عن فرْض اتّفاق استسلام ومنْعه من فرض التفاوض المباشر دليل على أنّ المقاومة بقيت ثابتة في التمسّك بعقيدتها. والاتّفاقات هي في التنفيذ وفي التحايل إذا لزم الأمر. لكنْ هنا الاتّفاق قلّلَ من فُرص التحايل على الجانب اللّبناني ولم يمسّ سجلّ الخروقات الهائل للعدوّ الإسرائيليّ. تستطيع إسرائيل أن تستمرّ في خروقاتها البحريّة والجويّة والبريّة، كما أنّ الراعي الأميركي يستطيع أن يمنحها حقّ الخرق بغطاء تشريعي دولي منها، طالما أنّ لبنان قبِل بأميركا كحَكم بيننا وبين إسرائيل.
إنّ تاريخ إسرائيل في المفاوضات العربية معها، حوْل وقْف النار أو وقْف العمليات العدائية أو اتفاقيات السلام، يستفيد دائماً من الاستسهال العربي في التحضير لاتّفاقات تعتمد، نظريّاً، على القانون الدولي وخصوصاً في مواضيع الصياغة والمفردات والمصطلحات. القانون الدولي ليس هو الحلّ، وليست الشرعية الدولية هي الحلّ، وخصوصاً أنّ أميركا تستعملهما كأدوات لتنفيذ مخطّطاتها وفرْض هيمنتها وإنقاذ حليفتها إسرائيل من العقوبة والمحاسبة والتشهير. ومنذ إنشاء الدولة النازية على أرض فلسطين، تتعامل إسرائيل مع القانون الدولي بخفّة واستسخاف وسخرية، متى لزم الأمر. هناك غير مشهد لتمزيق ديبلوماسيين إسرائيليين لقرارات من الأمم المتحدة رأت فيها إسرائيل إجحافاً بحقّها. لا يجب أن يلوذ لبنان بالقانون الدولي أو الشرعية الدولية أو ما يسمّى اعتباطاً بالمجتمع الدولي. إنّ كلّ الفريق الذي ينادي بالشرعية الدولية والقانون الدولي هو فريق مرتهَن بالكامل للتحالف الخليجي-الإسرائيلي-الغربي. الذين يريدون أن يعتمد لبنان في مواجهة إسرائيل على المجتمع الدولي، يسلّمون رقبة لبنان وأهله للمقصلة الإسرائيلية. هم يفعلون ذلك عن عمْد وليس عن جهل. هم ينطقون بالأجندة الإسرائيلية التي منذ النكبة تريد أن يكون لبنان خانعاً ذليلاً مستسلماً لها كما كان في كلّ سنوات ما قبل الحرب الأهلية. إنّ السيادة اللّبنانية والكرامة اللّبنانية مشروعان صعبان؛ لأنّ أكثر من نصف شعب لبنان ينفرون من هذه القيَم ويسخرون منها لأنّها تعني أنّ لبنان، رغم صغر حجمه وإمكاناته المتواضعة، يمكن له أن يتفوّق في الوطنية على دول عربية أكبر وأثرى منه.
الاحتراز والحذر واجب في كلّ قرار تكون إسرائيل شريكة فيه، وخصوصاً إذا ما كانت أميركا راعية مباشرة له. في هذا القرار لا تؤدّي أميركا فقط دور الراعي، بل هي تؤدّي دور الحَكم بين لبنان وبين دولةٍ هي الأكثر حظوة بين كلّ الدول عند أميركا. يستطيع لبنان أن يصرّ على الطلب من اللّجنة المولجة بأن تضع تفسيرات تفصيلية ومحدّدة للبنود التي صيغت على أساس الإبهام المقصود. كما أنّ ما تسرّب من الأوراق الملحقة التي تبادلتها أميركا مع إسرائيل تعطي إسرائيل منحة إضافية في حقّ الردّ والتفجير والقتل والقصف. حتى إنّ أميركا تستطيع هي أن تقوم بعمليات قصف وتدمير إذا اتّفقت مع إسرائيل على ذلك بحسب الأوراق المتبادلة بينهما. هذه الأوراق المتبادلة كان يجب أن تكون على طاولة المفاوضات التي حضَرها لبنان لأنّها تنقضُ بعضَ ما جاء في الاتّفاق المذكور. المهم في الأمر أنّ المقاومة صمدت حتى اليوم الأخير وأنّها لم تختفِ عن الميدان، واستطاع لبنان بعد أطول حرب مع إسرائيل أن يفرضَ على العدو وقْفَ النار رغم الكوارث التي لحقت بصفّ المقاومة، على صعيد لبنان وعلى صعيد المنطقة برمّتها.
كاتب عربي